السبت، 13 يونيو 2020

صه يا قلبي..ا. فتحي الخريشا.....

* صَهٍ يا قلبي *
صَهٍ يَا قلبي ..
ولتصمت فيك النبضات ..
كيف تنحرني بخنجرِك الغاضب وتمزقني برِمَاحِك العاتِية ..
تلقيني في بَحرِ أمواج وَجْدِك على الأشواكِ في عذابِ الأنَّات ..
كفّ عني ..
استحلفك بضياءِ الشَّمسِ ونُورِ القمرِ وبكلّ مَا في خلجاتِك من عنفوان وجنون أن تتركني وشأني فإنني أحترق بلهيبك كالقش في موقد النَّار ..
لست أريدك في صدري بركانًا ثورانهُ لا يهدأ ولا يَسكن عن الغليان ..
دخان هموم من أحزان وأدمع من حِمم نيران ..
لست أريدك في نفسي عواصفً مهلكة لا تكفىٰ عن خبلةِ هومةِ الهيام ..
عن قسوة نبال القصف ..
 لست أريدك يا قلبي أنْ تضخَّ في عروقي سُمّ حُمَىٰ الغضبِ وبُؤْس الحرمَان ..
أعلن تمردي على التنهدات التي تلقيني طفلاً مشردًا في الضَّبَابِ على صَدرِ الحرمان ..
أرفض أنْ أموتَ ظمآنٌ في الحدائقِ الغناءِ لا أقدر على شربةِ مَاءٍ ..
أرفض أن أكون أنا التّائِه في المحقلةِ على مضلّةِ الفلاةِ بلا عنوان   ..
ضائعاً في الزحام مَا لي من مكين مكان ..
من بصيرتي يتلاشىٰ الضِّيَاء ..
يفر الدفءُ من فؤادي ومن كلِّ شريان ..
فإذا أنا أشلاء فوق أرصفةِ المدينة ..
وفي الفضاءِ نثار حطام ..
أوتار سمفونيات على دروبٍ صَمَاء..
أرفضُ الحب الذي يجعلني نبيًا مجردًا من الآيات والمعجزات ..
مبحرًا في الأعماقِ بلا بوصلة وشراع ..
صه يا قلبي ..
كن حجرًا في ظِلّ أقداري الحمقاء الظالِمَة ذات الفوضىٰ والعمَاء ..
كن شوكاً بلا  أريجٍ ووَردٍ ..
عرق بلا نسغ في أزهار ..
كن زوبعة على أطراف تلك الصحراء القاحلة ..
كن ظلا تحت الشمس وعلى الأرض سراباً ..
كن مَا شئت أنْ تكون ولكن معذبي لا تكون ..
أفراشة هيماء أنت يستهويك الدفء للموت في أعماق النور ..
هدف لكل سهام النار تشرع لها مهجة محبتك لتحرق فيك بالآهات والحسرات كلَّ شجرة بين يديك وبستان ..
فانهض من السّجود في محراب الحب ..
وكفاك اِنْتِحارا ..
ألآ صهٍ يا قلبي ..
هي ذي حسناء ..
أعذب من قطرات الندى في الفجر في أكمام الورد ..
أجمل من البدر حين أوَّل الاكتمال وحين أول الشروق في أحداق البصر ..
أرق من النسيم وأذكىٰ من محاور القدر ..
تأخذ كلّك للنسيان ..
كل أسلحتك لأتون النار ..
تتركك فارسًاً جريحًا مهزومًا في أوّل المعركة بلا بلسم أو كفن ..
تثني كلّ خطوط  طرائقك لاِلتواءاتٍ في جدائِلِهَا المُترامِيَة على الكتفين  ..
تمحي كل الألوان في لوحتك ..
تحطم قيثارتك  أشلاءًا على صخرةِ الحياة ..
تدعك وحيداً في القفراء بلا اتجاهات لنجاة ..
بلا ماء وبوصلة وسلاح ..
بلا شمس وقمر وبلا ليل ونهار ..
تحرق صدرك بنار بركان ..
تمزق حشاشتك بمخالب الأوجاع والأحزان ..
فإذا أنت بلا زمان ومكان ..
بلا بساط وقبّة وقد فاتك الحاضر كما الأمس وعن الغد أذهلت ما لك إليه من رِتاج ..
وإذا أنتَ في محرابها في غيبوبة تأسرك كلمات منها كأسير ألقيت عليهِ أثقال قيود هيهات له منها من فكاك ..
وكعابد مأخوذ في ليلةٍ اصطفت فيها البُروج فمَا لهُ عن البساط من براح ..
تنْحَرك منها نظرة تسوقك لمذبح العشق أضحية دون حراك ما لك من مخلص وفي صمت كصمت القبور عزَّ عليهِ البواح ..
مسلمٌ لها كطيرٍ على وَضم الجزر حين أجنحته مكبلة في قبضة الموت أين حلقومهُ من خلاصٍ من حدِّ سكين الذّبَاح ..
لقد صار عقلي مستهزأ بك يا قلبُ ونابذاً مَا تقع عليهِ من إِيمَان ..
فصَهٍ يا قلبي ..
أعلمُ علم اليقين أنك تعشقها أكثر من عشقك للظّلالِ الظليلِة في صحراءِ الشّمس ..
أكثر من عشقك للدفء في مواسم البرد ..
أكثر من عشقك للمطر حين ينزل بعد سنينٍ عجافٍ ..
مطرٌ هي في محقلتك غزير ..
وأعلمُ أنها سِرُّ إشراق النُّور ..
ابتسامة القدر الجميل المفرح بكلّ السُّرُور ..
هي إرادة النهوض من وسطِ الحطامِ ورمادِ الخراب ..
حياة تعمر فؤادك بالحُبِّ والإشراق ..
وهي زهرةٌ تشق الحياة وَسَط الصَّخر ..
ينبوعُ مَاءٍ يتدفقُ في جفاف أراضِيك لأنعُم الخير ..
وَاحة تختال بظلالِهَا في هَجيرِ القفراء ..
أجمل من ندف الثلج المتساقطة خلال أشعة الشمس قبيل المغيب ..
أزهىٰ من غابةِ الوردِ والأزهار ..
ألطف من رقّة الإحساس حين تداعبها نسمات الأسحار ..
فكيف من خفقانك كلما لاحت لا تنهمر الدموع الهتون ..
كيف لا تجهش بالبكاءِ حزنا وفرحًا بأنك تضمها إلى أعماق لبّ فؤادك ..
كيف لا يصيبك الذهول حين ترنو إليها وإنْ من صورتها في الخيال..
وهي وحدها رقة العذوبة وعمق الحب ورواء الجمال ..
هي رسو الواقع وشراع الأحلام وكل الآمال ..
هي بين يديك معول الهدم والبناء ..
هي فناء أزليتك وقيامة أبديتك وفيها تموت وتحيا ما دارت كرَّة على الأجيال..
وأعلمُ أنك بكلِّ ما لديك من عاطفةٍ متأججةٍ أحببتها حبًّا عظيما لحياة كاملة الجلال ..
ولكن يا قلبي بهذا أنت تنحرني على شجرةِ الحياةِ ..
حبٌّ صار صِنو حبٍّ من خلفِ الأسوارِ والحُجُبِ بلا طرفةِ لقاءٍ ..
حبّ بلا كُون فيَكون لنظرةٍ وعِناق ..
فتوارىٰ في أوّلِ طاوِيَةِ ضَبَابٍ ولَفِيفةِ ظلام ..
فمَا زال القاربُ على موجةِ الشاطئِ وعلى أشرعتِهِ هُبُوبُ الرِّيحِ مُتهيءً للرَّحِيل ..
صَهٍ يَا قلبي المُضطرب في الضّلوع بأسىٰ الأشجان..
فبرغم أنها اِرتحلت لأرضٍ مرصُودةِ الحدودِ مَا زالت تدثرك بِعَيْنيهَا ..
بدفءِ شفتيها ..
بحنان صدرها ..
فهدأ وعليك بالصمت كقبر بلا شاهد عليهِ وحوطة من حجارةٍ ورَمْل ..
وإني أعلمُ أنَّهَا تُدثِرك كمّا التراب على البذرةِ وكما السَّماءُ على الأرضِ ..
وأنت منذ زمن بعيد مسافرًا في وَجد حنين العشق ..
في ظلمِ وظلمةِ المدينةِ وهَاجِرَة الحَرِّ وصردِ البَردِ ..
في قهر الحرمان الملعون ..
منذ زمن تتوق أن تحط الرحال بين يديها كمَا الطير على الوَكْنِ ..
تتوق أن ترتمي على مقربة منها متناسيًا وجع عذاب الآلام وحارق مكابدة الأنين ..
تدثرك بذراعيها بلهفة دفء اللقاء .. 
بسويداء قلبها المترامي على الأفاق ..
تأخذك إلى مَدائِنِهَا السّريَّة ..
تسكنك في فردوس جَنّتِهَا تلك التي على مقربةٍ من تلك النَّجمَة الشاردة ..
وتلقي بك في قفراءِ صحرائِهَا اليَهْمَاء وَسط حرائقِهَا المُسَعَّرَةِ بحِممِ النيران..
وإيهٍ تدثرك  بنُورِ عينيها ذواتيْ نضارة الرّواءِ ورَونق الصًّفاء ..
بلون شعرها المسترسل على أجنحة كون وأكوان ..
بحرارة النبض المتدفق في دِمَائِهَا لصنع الحياة..
بآهات أنفاسها المُضْطرِمَة بِلظىٰ لواعج الهُيَامِ حين يكون القمرُ بدرًا في أفقِ الليل ..
وتدعك طفلاً يركض على تلك الشواطئ المنسِيَّة في مدن الحرمان ..
تخرجك من قمقم أحياء الصقيع والخرافة والجهل والإعتلال ..
من الأسمال البالية وأبَّهة الخداع ومعتقدات البهتان ..
من نكد أرصفة الجوع والتشرد والإهمال ..
وتدثرك ..
وأنت المنتظر قدّام بصيرتِهَا في كافةِ محطاتِ الاِنْتِظار ..
أنت زوادة وبوصلة وأجنحة رحلة الرحيل ..
وإيهٍ لك أنْ تحملها في خلجات فؤادِك الذي باِسمِهَا يُسبح مَا غردَ من بلبلٍ وطارَ طائِرٌ بِجَناحِين ..
لك أن تعوم وإيّاهَا في بحيرة الجمال عاريان من قبحٍ وأدران ..
أنْ ترتويا من ينبوع عذب عِشقكمَا الفائِق الصَّفاء إن كان لك مِنهَا من راوِيَةٍ واكْتِفاء ..
لك أن تنسج لها كل نجمة بتوقدِ الضِّياءِ في سبحةِ كلّ ما تنظرهُ حواليك من حُسَّان ..
فبرغم كل ذلك اشفق على يا قلبي واسكت ..
وصهٍ يا قلبي ..
ولتسكت فيك الأنفاس ..
عذبتني ..
مسكيناً أصبحتُ لا أقدر عليك ..
فبِكُلِّ مَا يُحلفُ بهِ استحلِفك أن ترحمني ..
قد أصبحت دموعي أمطارًا تهطل على خضلاءٍ وجرعاء وأنهارًا تجري لكوكب يصير بلا بَرّ تغمرهُ المياه بمكين طوفان ..
كيف المفر وأنت في الضلوع تنبض بعمق الحياة ..
كيف المفر وأنت أبداً أنا الذي لا يعرف إلاّ أن يحبَّ بطاقةٍ فائقة القوّةٍ فيورث الكآبة والحطام والتنائي بعيداً إلى جزر الحلم والتمني الحزين الدافئ على شواطئ الجليد ..
بحق النور عليك يا قلبي أن تختلس النظرات إليها من وَرَاءِ ستارِ حجابٍ تراك ولا تراها كي لا تهلك من حُسْنِهَا الأخَّاذ كمَنْ رمياً يُرمىٰ بأسهم الاِصطِيَاد ..
بحقَّ الشّوق عليك يا قلبي أنْ تؤجلَ لقاؤها بين فينةٍ وأبعد كي لا تسقط على صدرِهَا تجهش بالبكاءِ ..
تجهش بالدَّموع والدَّم ..
كأنك طفل رضيع دونها بلا نهدٍ ورشفة مَاء ..
مشردا بلا أرض وسَمَاء ..
ضائعا في لجّة الزحام نحو جرداءِ هَومَاءِ التيهِ لِمُنْتهىٰ الاِنتِهَاء ..
هي التي تهوىٰ الحسناء..
هي حواءُ البلسمُ والجَنّة ..
هي السُّمُّ والنّار ..
كأنّ قدرك أنْ تهوىٰ فتدخل الجنة لتشرب السُّمَّ راضِيًا غير مبالٍ بِبَلاءٍ وشقاء ..
بنار حواء التي لا تنطفئ أبدا ..
فصَهٍ يا قلبي ..
هي الدنيا ..
كلّ الدنيا ..
فارتحلْ .. .
           من ديوان ( سفر بلا عنوان )
        شعر المهندس فتحي فايز الخريشا

هناك 3 تعليقات:

  1. تحياتي للجميع ..
    كل الاحترام والتقدير لشخصكم النبيل وشكرا للتوثيق
    محبتي أكيدة

    ردحذف
  2. قصيدة رائعة ومعبرة جدا تحياتي لك قصيدة عميقة ومعبرة كمية الإحساس الصادق كبيرة تستحق كل الثناء

    ردحذف
  3. من اجمل قصائدك .. ابدعت النشر 👍🏻👍🏻👍🏻

    ردحذف